
تجلس لالة (25 عاما) في بهو أحد المطاعم الحديثة في العاصمة نواكشوط، تحتسي كوبا من القهوة وتتجاذب أطراف الحديث مع صديقاتها، اللاتي اعتدن الجلوس كل مساء، تقريبا، في مطعم راق بالعاصمة نواكشوط.
الملحفة تكاد تلتصق بجسد الشابة، فتيار الكناري الذي يهب من حين لآخر على الجالسين أمام "سافنا كافيه" على شارع المختار ولد داداه، في تفرغ زينة؛ المعهودة لسكن الأغنياء والدبلوماسيين، بالكاد يسمح لها بستر شعرها المنـساب على كتفيها، وإن بدت غير مهتمة كثيرا بالسيطرة على ملحفتها التي تخطفها منها الرياح. تشعل "وردة" سيجارة، وتمسك بإحدى أحدث صيحات الهواتف الذكية، مستغرقة في حديثها مع أحد أصدقاء الغربة، فهي منذ نصف ساعة في انتظاره عند المقهى المشهور. وعلى الطاولة وُضعت أنواع من المأكولات الخفيفة: "شوارما" و"هامبرجر" و"ساندويتشات" ملفوفة في قطع ألمنيوم.." وأخرى ما زالت في انتظار أن يلتئم شمل المجموعة".
تقول إحدى صديقاتها. تبتسم "سميرة" المنحدرة من أصول جزائرية؛ و تعمل في فرع لشركة ترانزيت بموريتانيا، متسائلة عن مصير شلة الأصدقاء التي جمعتها مقاعد الدروس قبل أربع سنوات في جامعة ألمانية للتكنولوجيا، وتستغرب انقلاب العادات الغذائية للعديد من صديقاتها اللواتي تعرفت عليهن في الخارج منذ سنوات. وتقول إنهن أصبحن يحلمن بجسم رشيق ويخشين البدانة. أما "وردة" فتعكس في حياتها أسلوب عيش مختلف لدى الشابات من بني جلدتها في هذه البلاد، التي لا يزال الاحتشام يطبع نساءها وحتى السنوات الأخيرة، متشبثات بمظاهر تقليدية في اللبس والخروج والتعاطي مع محيط خارج الأسرة. فيما لا تعتبر الشابة خريجة ألمانيا أن ما تقوم به يمثل نشازا في الحياة .
فتيات أصبحن أكثر تأثرا بنمط الحياة العصرية. تحت الملحفة تمتشق بعضهن الجينز في أحدث صيحاته، وعلى عيونهن يبدو بريق العدسات اللاصقة متلألئا، وكأنهن اختلقن عيونا غير التي يمتلكنها، وبين الشفاه تتطاير ألوان "الماسكرا" و"الماكياج"، وحتى في لغة التخاطب، كان عليهن أن يحيين بعضهن بعض، بعبارات مثل "هاي" ويودعنهن بأخرى مثل "باي" (حياتنا ليست معروضة للتشريح، فنحن نعيش ضمن مجتمع يمر بمرحلة من التحول لابد منها، ففي ظل اندثار وسائل التجميل التقليدية كـ"الكحلة" التي لم تعد متوفرة بما فيه الكفاية، لابد من بديل.. وليس فقط النيلة) تقول إحدى الشابات. يكاد زمن "النيلة" بلونها الأسود أن ينتهي، بعد أن كانت النساء الموريتانيات تلبسنه من أجل الزينة، حيث ترتديه المرأة لفترة، فتبدو بشرتها سوداء قبل أن تأخذ حماما تزيل به ما علق في جسدها من تلك الملحفة، لتظهر في صورة جديدة. إلا أنه لم يعد يساير واقع اليوم بحسب رأي "وردة" وتقول:"بات علينا أن ننسجم مع ما يتيحه العصر من حولنا من وسائل حديثة، دون أن نتجاوز الخطوط الحمراء طبعا لأخلاقنا التي جبلنا عليها.
وشهدت موريتانيا خلال السنوات الأخيرة تحولات كبيرة ليس على المستوى السياسي فحسب، ولكن أيضا على مستوى العادات والتقاليد. "النساء أصبحن أكثر حرية من ذي قبل، والمستجدات تلقي بظلالها على بنات اليوم" يقول خبير اجتماعي، مشيرا إلى أن وسائل التربية التقليدية لم تفلح في كبح جماح وسائل الاتصال الحديثة، والتي تدخل البيوت دون استئذان . ويعتقد بعض الباحثين الاجتماعيين أن المرأة الموريتانية المدللة بطبعها، وجدت الفضاء مفتوحا أمامها لتفعل ما تصبو إليه وتريده. بالأمس القريب لم يكن الموريتانيون يحبذون التعليم العصري؛ لأبنائهم من الذكور أحرى بناتهم، أما اليوم فان الفتيات يتسابقن للحصول على منح دراسية في جامعات خارج الوطن، والميسورون يصرفون أموالا طائلة على بناتهم للدراسة في أعرق الجامعات والمعاهد العالمية.
الفتيات الجدد أكثر ميلا إلى الاستماع لأغاني فنانين عرب معاصرين، وأغاني الراب وموسيقى "لبلوز" الحزينة، التي نشأت في أمريكا من واقع التهميش والغبن الذي يتعرض له الزنوج في الريف الأمريكي. أما فتيات المدارس، وتحديدا في نواكشوط، فيستمتعن بتلك المقطوعات الموسيقية، في إطار ثورة على الأغاني التقليدية المحلية تشهدها البلاد، وهم يعبئون هواتفهم المحمولة بأغان عديدة و"يخفون سماعات الهواتف تحت الملحفة، حتى داخل قاعات الدرس" يقول أحد المدرسين في الثانوية العربية بنواكشوط.
بيد أن أحد رموز الموسيقى التقليدية وملحن نشيد الاستقلال الموريتاني الفنان سيداتي ولد آبه وهو في عقده الثامن لا يخاف على مستقبل الأجيال، إذ يتحدث عن تطويره لآلة القيتار الغربية لعزف مقامات الطرب التقليدي التي كانت تعزف على آلتي التدينيت، وآردين، حفاظا على الموسيقى الموريتانية، التي لم تكتب بعد.
ويقول سيداتي إنه علم ابنته الصغرى "كرمي"، وهي فنانة شابة الموسيقى التقليدية، خوفا عليها من الذوبان في الآخر في وجه طوفان العولمة الجارف.
صحراء ميديا